للموقف الوطني الشجاع والمسؤول ثمن ما يجب دفعه، وربما يكون باهظاً. هذا ما يعرفه الرئيس محمود عباس بحكمة عمره وحنكة تجربته. فإذا كان الرئيس، مستنداً إلى عدالة قضيته والتفاف شعبه من حوله وتعاطف العالم بأسره معه، قد تصدى بجرأة لافتة للضغط الدولي الرامي إلى دفعه نحو مفاوضات غامضة البدايات مجهولة النهايات، فإن من البديهي أن يرد خصومه عليه بضربات ظاهرة حيناً ومستترة أحياناً، تتأرجح ما بين التطاول عليه شخصياً من جهة والنيل من مقومات صمود شعبه من جهة ثانية والتهديد المبطن بالتحول الكامل ضده كسلاح أخير لإقناعه بالتوافق والتكيف مع شروط الاحتلال الإسرائيلي وتصوراته القسرية المجحفة لمستقبل السلام في المنطقة.
بزهده وتواضعه وتاريخه الكفاحي توفرت للرئيس عباس قامة عالية يصعب أن تطالها الافتراءات المسمومة، وبثباته على إيمانه بالسلام وقدرته على المناورة يحاول احتواء السياسات الدولية المضادة ويعرقل تحولها إلى جبهة معادية للأهداف الوطنية الفلسطينية، وقد حقق حتى الآن نجاحاً مدهشاً فاقم من عزلة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة على المستوى الدولي وأضعف من قدرة حلفائها في واشنطن على جر الإدارة الأميركية إلى الانحياز الكامل لأطماعها الاستيطانية والتوسعية.
لم يكن للرئيس عباس أن يخطو نحو المواجهة بثقة المؤمن وبسالة المقاتل لولا ما حظي به من التفاف شعبي فلسطيني لم يسبق له أن حظي بمثله. إن قياسات الرأي العام المنظمة من مراكز أبحاث ومسوح محلية ودولية محايدة وموثوقة تعطي الرئيس عباس نسبة كاسحة من التأييد الشعبي الفلسطيني، وترجع تلك النسبة، دونما شك، إلى تصديه لحكومة نتنياهو وثباته في مواجهة الضغوط الدولية. أما في حركة 'فتح' فإن كل ذي بصيرة سيدرك حتماً إلى أي حد بات كل فتحاوي يفتخر برئيسه الذي استمد من تراث شعبه الكفاحي قدرة غير مألوفة على الصبر والاحتمال والتمسك بالمبادئ والأهداف.
لن يضير الرئيس عباس ما تخطه أقلام مأجورة حول الصراعات الداخلية في 'فتح' أو حول تنامي المعارضة له داخل الحركة، كما جاء في wall street journal، بقلم الكاتب تشارلز ليفنسون، فما قيل في هذا الصدد ليس سوى تعبير مبتذل عن تفكير رغبي لا صلة له بالحقيقة. أما الضرر، كل الضرر، فسيأتي على ألسنة بعض شخصيات الحركة التي آثرت، في هذه اللحظة السياسية الدقيقة، أن تضم أصواتها إلى الحملة الواسعة والضارية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية ورئيسه المنتخب. إنه من المؤسف حقاً أن ينقل على لسان السيد ناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية للحركة، ما نسب إليه من تشكيك في سياساتنا الوطنية وطعن في قدرة قيادتنا على إدارة معركتنا الوطنية الصعبة. نتمنى لو كان الاقتباس عنه ملفقاً إذ لا يليق بمن في مكانه أن يوجه سهامه في الوقت الذي تنهال فيه السهام من جهات شتى.
في لحظة المواجهة الصعبة مع الخصوم ليس من الحصافة قبول التشكيك بوصفه نقداً وتصويباً. إنه، باختصار، أسوأ من ذلك كثيراً. انه يعود بنا إلى ما قاله المتنبي:
وسوى الروم خلف ظهرك روم ****** فعـلى أي جانبيـك تميـل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق